الأحد، مايو 15، 2011

نسيم الحرية للمنفلوطى


الحـــــــــريــــــــــــــــة

مصطفى لطفي المنفلوطي (ت: 1342هـ -1924م)
استيقظت فجر يوم من الأيام على صوت هرَّة تموء [المواء: صوت الهرة] بجانب فراشي وتتمسح بي، وتلح في ذلك إلحاحاً غريباً، فرابني أمرها، وأهمني همها، وقلت: لعلها جائعة. فنهضت، وأحضرت لها طعاماً فعافته، وانصرفت عنه، فقلت: لعلها ظمآنة. فأرشدتها إلى الماء فلم تحفل به، وأنشأت تنظر إليَّ نظرات تنطق بما تشتمل عليها نفسي من الآلام والأحزان؛ فأثَّر في نفسي منظرها تأثيراً شديداً، حتى تمنيت أن لو كنتُ سليمانَ أفهم لغة الحيوان؛ لأعرف حاجتها، وأفرج كربتها، وكان باب الغرفة مُرْتَجاً [أي: مقفلاً]، فرأيت أنها تطيل النظر إليه، وتلتصق بي كلما رأتني أتجه نحوه، فأدركت غرضها وعرفت أنها تريد أن أفتح لها الباب، فأسرعت بفتحه، فما وقع نظرها على الفضاء، ورأت وجه السماء، حتى استحالت حالتها من حزن وهمٍّ إلى غبطة وسرور، وانطلقت تعدو في سبيلها، فعدت إلى فراشي وأسلمت رأسي إلى يدي، وأنشأت أفكر في أمر هذه الهرة، وأعجب لشأنها وأقول: ليت شعري هل تفهم هذه الهرة معنى الحرية؛ فهي تحزن لفقدانها، وتفرح بلقياها؟ أجل، إنها تفهم معنى الحرية حق الفهم، وما كان حزنها وبكاؤها وإمساكها عن الطعام والشراب إلا من أجلها، وما كان تضرُّعها ورجاؤها وتمسحها وإلحاحها إلا سعياً وراء بلوغها.
وهنا ذكرت أن كثيراً من أسرى الاستبداد من بني الإنسان لا يشعرون بما تشعر به الهرة المحبوسة في الغرفة، والوحش المعتقل في القفص، والطير المقصوص الجناح من ألم الأسر وشقائه، بل ربما كان بينهم من يفكر في وجهة الخلاص، أو يتلمس السبيل إلى النجاة مما هو فيه، بل ربما كان بينهم من يتمنى البقاء في هذا السجن، ويأنس به، ويتلذذ بآلامه وأسقامه.
من أصعب المسائل التي يحار العقل البشري في حلها: أن يكون الحيوان الأعجم أوسع ميداناً في الحرية من الحيوان الناطق، فهل كان نطقُه شؤماً عليه وعلى سعادته؟ وهل يجمل به أن يتمنى الخرس والبله ليكون سعيداً بحريته ...؟!
يحلق الطير في الجو، ويسبح السمك في البحر، ويهيم الوحش في الأودية والجبال، ويعيش الإنسان رهين المحبسين: محبس نفسه، ومحبس حكومته من المهد إلى اللحد.
صنع الإنسان القوي للإنسان الضعيف سلاسل وأغلالاً، وسماها تارة ناموساً وأخرى قانوناً؛ ليظلمه باسم العدل، ويسلب منه جوهرة حريته باسم الناموس والنظام.
صنع له هذه الآلة المخيفة، وتركه قلقاً حذراً، مروع القلب، مرتعد الفرائص، يقيم من نفسه على نفسه حراساً تراقب حركات يديه، وخطوات رجليه، وحركات لسانه، وخطرات وهمه وخياله؛ لينجو من عقاب المستبد، ويتخلص من تعذيبه، فويل له ما أكثر جهله! وويح له ما أشد حمقه! وهل يوجد في الدنيا عذاب أكبر من العذاب الذي يعالجه؟ أو سجن أضيق من السجن الذي هو فيه؟
ليست جناية المستبد على أسيره أنه سلبه حريته، بل جنايته الكبرى عليه أنه أفسد عليه وجدانه، فأصبح لا يحزن لفقد تلك الحرية، ولا يذرف دمعة واحدة عليها.....
كان يأكل ويشرب كل ما تشتهيه نفسه وما يلتئم مع طبيعته، فحالوا بينه وبين ذلك، وملؤوا قلبه خوفاً من المرض أو الموت، وأبوا أن يأكل أو يشرب إلا كما يريد الطبيب، وأن يقوم أو يقعد أو يمشي أو يقف أو يتحرك أو يسكن إلا كما تقضي به قوانين العادات والمصطلحات.
لا سبيل إلى السعادة في الحياة، إلا إذا عاش الإنسان فيها حرًّا مطلقاً، لا يسيطر على جسمه وعقله ونفسه ووجدانه وفكره مسيطر إلا أدب النفس.
الحرية شمس يجب أن تشرق في كل نفس، فمن عاش محروماً منها عاش في ظلمة حالكة، يتصل أولها بظلمة الرحم، وآخرها بظلمة القبر.
الحرية هي الحياة، ولولاها لكانت حياة الإنسان أشبه شيء بحياة اللُّعب المتحركة في أيدي الأطفال بحركة صناعية.
ليست الحرية في تاريخ الإنسان حادثاً جديداً، أو طارئاً غريباً، وإنما هي فطرته التي فُطر عليها ...
إن الإنسان الذي يمدّ يديه لطلب الحرية ليس بمتسوِّل ولا مستجد، وإنما هو يطلب حقًّا من حقوقه التي سلبته إياها المطامع البشرية، فإن ظفر بها فلا منة لمخلوق عليه، ولا يد لأحد عنده.
المصدر: كتاب (مؤلفات مصطفى لطفي المنفلوطي الكاملة، دار الجيل- بيروت، 1404هـ، 1984م، (1/127) بتصرف।