الأحد، نوفمبر 08، 2015

ذكرياتي مع "جماعة الفرماوية" 1-2



استهلال : يتبادر للأذهان حينما نتكلم عن هذه الجماعات المجهولة للكثيرين تساؤلات مثل ما فائدة الحديث عن فكر مغمور انطمر في غياهب التاريخ ؟ ولماذا الاهتمام بالرصد التاريخي والتأصيل العقدي لبعض عشرات أو مئات من شذاذ الأفكار الذين لم يتركوا بصمة داخل المجتمع المصري ؟ وكيف نترك مشاكل " جنون الدولار " و " سد النهضة " وقضايا " الاستبداد والتعذيب والاختفاء القسرى وغيرها " و الذي لم تمر على مصر فترة اضمحلال ورجعية إنسانية وحضارية وقيمية مثل تلك الفترة الغابرة من التاريخ المصري المعاصر.

والإجابة : لأسباب عدة منها حفظ التاريخ للأجيال القادمة  وتوضيح التجارب السابقة  ( إصلاحية أو ثورية  كانت ) لتتحاشى الأجيال القادمة تكرار نفس الأخطاء بحذافيرها وحتى يبدءوا  من حيث انتهى الآخرين و لا يعيدوا الكرة ذاتها ، ولشيوع فكرة السرية والكتمان وغياب التأصيل العقدي والتاريخي لهذه الجماعات في فترة الصحوة الإسلامية التي بدأت في السبعينات وحتى الآن وتغليبها للجوانب العملية والسلوكية على حساب الجوانب التنظيرية كما يقل – ان لم ينعدم – اهتمامهم بتدوين تاريخهم وكتابته  ولإغفال كثير من الباحثين إلقاء الضوء على هذه الجماعات محدودة التأثير والاهتمام بالجماعات الكبيرة ذات القوة والشعبية وأخيراً شيوع كتابات منظري اليسار الراديكالي المغالى  مثل "رفعت السعيد ونبيل عبد الفتاح" وغيرهم  عن هذه التنظيمات أكثر من كتابات المنصفين المعايشين .. وحتى عندما يكتب الأصدقاء والمريدين .. فإنهم يكتبون ما يحبون.. باعتبار أن هذه الدعوة كاملة مكملة.. يخطئ غيرها.. وهي معصومة من الخطأ.. وهو منهج خطير في التاريخ.. منهج تبريري يغالط الحقائق.. ويجعل التاريخ روايات لا عبرة منها ولا فائدة. لذا نحاول الرصد والتحليل والتأصيل لتعم الفائدة ..


وهنا نحاول إلقاء الضوء على مذكرات المهندس "عبد الرحمن عبد اللطيف "  وهو واحد ممن صاحبهم لمدة تربو على خمس وعشرين عاماً وتربى بينهم  وكان أقاربه من الدرجة الأولى من أتباع ومريدي " الفرماوى " وقد أتاحت له هذه السنون حضور مجالس شيخهم وقراءة مذكراتهم التي كتبها إمامهم وتبعه أتباعه في ذلك وتكتسب هذه المذكرات أهميتها من كونها إضافة هامة للمكتبة الإسلامية وللمهتمين بمجال الحركات الإسلامية المصرية المعاصرة – حيث تخلو المكتبة من أي ذكر لهذه الجماعة سوى بعض القفشات وطرائف الاعتقاد  للشيخ أبى إسحاق الحوينى حينما زامل أستاذهم في نفس الزنزانة (1)  وكذلك الشيخ وجدي غنيم حينما حُبس معهم في الثمانينيات -  من شاهد عيان راجع ودرس أكثر من ألف ورقة مما دونه أنصار  إمامهم الفرماوى وقارن بين أصول الاعتقاد لدى " الشيعة " و " الصوفية " المغالين ومدى مقاربتها لأفكار هذه الجماعة وأساس الغلو والشطط لديهم مقارنة مع عقيدة " أهل السنة والجماعة " الطائفة المنصورة .

نشأة الجماعة :

ظهرت هذه الجماعة عندما خرج على الناس في بداية السبعينـــات من القرن الماضي  إمامهم  "محمد سالم الفرماوي"  - المولود بقرية ( ساقية أبو شعره) بالشرقية  في أواخر القرن التاسع عشر ميلادي وتوفى فى أول شهـــر يناير من عام واحد وتسعين وتسعمائة وألف من الميلاد عن عمر يزيد على المائة عام - 
  منادياً  بأنه عالم رباني يمشي بإلهام ونور من الله ، وأنه يتلقى الوحي من الله ، وما عليه إلا البلاغ !
كان شيخ هذه الجماعة يجيد لغة الجسد ويُسرف في استخدام المؤثرات البصرية والسمعية ويوظفها في في خطابه لأتباعه المشتاقين لنور الله وحكمته التى اختص الله بها زعميهم من دون البشر قاطبةً ، فقد كان يمكث معظم الوقت مغمض العينين له صوت خافت يشبه أنين المريض ويتمتم أحياناً بكلمات غير مفهومه مما أوحى للحاضرين باتصاله باللدن الالهى العلوى ويقذف في قلوبهم الهيبة والرهبة والتوقير له .

كان الرجل نحيل الجسد ، قصير القامة ، يرتدى العمامة الكبيرة والعباءة والحذاء الأخضر ويمسك في يده بعصا خضراء غليظة في يده وهو نوع من المؤثرات البصرية التى توحى للمتابع بيوتيوبيا مجتمع الفضيلة والجنة الموعودة حيث المروج الخضراء وانهار اللبن العذب الذى لا يتغير طمعه مما يوقف العقل ويفتح القلب على مصراعيه لتلقى الأفكار على أنها مسلمات وثوابت قطعية الثبوت قطعية الدلالة  لا تحتمل النقاش أو التأويل أو المراجعة ..

كانت البدايات حينما  بدأ يعتزل الناس ويتعبد منفردا عن الخلق ، وأحيانا يجلس لإلقاء الدروس وصار  الناس يلتفون حوله ، ويصدقوه فيمـــا يقول ، ويؤيدون طريقته التي يدعو إليها فبدأ يتكون هيكل للجماعة ، ويظهر لها شكل ملموس في المجتمع ، وسمع الناس بمبادئهم ، لكن دعوتهم لم تكن سريعة الانتشار حيث أنها مخالفة لصريح المبادئ الإسلامية المتعارف عليها بين الناس ، ولأنها مخالفة للعقول الراجحة والفطرة السليمة . 

  لم تكن فكرة " نشر الدعوة " غاية ملموسة لديهم  حيث أن مبادئهـــم تنفي الأخذ بالأسباب ويقولون إن قلوب البشر منها مؤمن ومنها كافر ، فالقلب المؤمن هو مؤمن بطبيعته فلا يحتاج إلى دعوة ، والقلب الكافر هو كافر بطبيعته فلا تنفع معه دعوة ، كما أن منهجهم في ذلك أن الدعوة تكون سلوكية فقط دون كلام ، لأن لأهل الكلام علماء كتب ، وليسوا علماءا ربانيين ، ولذلك يجب مواجهة الدعاة المتكلمبن بالصمت والسلوك الإسلامي .
  
  ولعل هذا كان من أسباب قله أعداد هذه الجماعة ، التي بلغت أربعمــــائة شخص على مستــوى الجمهورية طبقا لما ورد بإحدى الصحف  في بداية الثمانينات.

ومما امتازوا به  تقديم " العقل على النقل " ، ويقولون أن دليل المؤمن قلبه ، بدليل الحديــــث : ( استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك ) كما كان يقول شيخهم ، فقد كانت هناك عبارة شهيرة طالمــا رددها يقول ( المعنى عندي كذا ) أي قلبي يشعر بكذا كأنه " استحسان " فقط  دون اعتبار لبقية مصادر التشريع مثل "الإجماع والقياس والمصالح المرسلة "
أما عن نظرتهم للمجتمع و معاملتهم مع سائر الناس فمن المنطقي أن يحدث تنافر بينهم وبين المجتمع لكنه لم يصل للتكفير العينى لغياب فهمهم لضوابط الكفر وموانع الايمان نظراً لسواد الأمية والجهل بينهم   بل كانوا يكتفون  بالنظر  إلي الناس على أنهم"أهل الباطل" ليس فيهم خير إذ لو كان فيهم خير لهداهم الله إلى الحق الذي هم عليه وأن هؤلاء قد خلقهم الله لخدمتهم والقيام على راحتهم فهم عباد الله وباقي البشرية خدم لهم وهـــم صفوة البرية على وجه الأرض لا يدانيهم في هذه المنزلة عالم من العلماء ولا مجاهد من المجاهدين ولا شهيد من الشهداء فكل هؤلاء تلقوا دينهم من الكتب، أما هم فتلقوا دينهم من الوحي والإلهـــام فنتج عن ذلك أن صدوا هم عن سبيل الله  فإذا لقي بعض أفراد الطائفة رجلا ً أُمياً قال عنه " هذا رجل فطرى " أي على الفطرة السليمة التي لم تُشوه بعلم الكتب ، وإذا لقي رجلا ً من الجُهال لكنه يُحب أهل الدين قال عنه " هذا رجل عنده معنى " وهي كلمة ثناء عندهم !
 أما إذا لقي واحداً من طلبة العلم  قال عنه " هذا شيطان ، هذا عدو، هذا مُحمّل بأباطيل الكتب ولا رجاء في هدايته ولا فائدة في نقاشه !

  فأفكار انعزالية بحتة وجيتو منغلق يضيق بأتباعه ويقيد أفكارهم  ويفرض عليهم ( وجوب الأمية وتحريم التعليم وترك الاخذ بالاسباب وفهم التواكل على أنه توكل وتصنيف الناس إلى بر بالفطرة وفاجر بالفطرة والاخذ بالقرآن فقط وعدم الاعتراف بالسُنّة " الحديث " والتفسير والفقه وغيره ) لهى أفكار تحمل في طياتها أسباب فنائها وعدم تقبل المجتمع لها مما أدى لتشرذم الأتباع بعيد وفاة مؤسسها أو يمكننا القول أنهم في طريقهم للاندثار فأعدادهم الآن لا تتجاوز الخمسين شخصاً على مستوى الجمهورية معظمهم تقدم في السن ولم يبق من أولادهم على نفس الايدولوجية سوى أعداد لا تتجاوز أصابع اليد دون توافر رابط فكرى يجمعهم ويعيد ترتيب صفوفهم المتهالكة لعدم توافر مرجعية شرعية تستكمل البناء الأصولى لما وضعه زعيمهم الراحل وهذا ديدن الجماعات الشاردة التى تعتمد على شخصية كاريزمية واحدة فيقل وميضها ويخفت تأثيرها بوفاته  كما حدث مع جماعة السماويين لزعميها "الشيخ طه السماوي " أو جماعة الشوقيون لإمامهم " شوقى الشيخ " أو حزب الله المصري لقائدها "احمد طارق ".



في الجزء الثانى من ذكرياتى مع جماعة الفرماوية نتناول : الأصول العقدية للجماعة الفرماوية (2-2)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق