السبت، أغسطس 06، 2011

عبدالمنعم أبوالفتوح ..الفارس النبيل



فى ٢٧ أكتوبر ٢٠٠٩ نشرت هذا المقال عن عبدالمنعم أبوالفتوح، وأجد من المناسب أن أعيد نشره فى هذه الأيام। هنا المقال القديم الجديد॥ (يبتسم الدكتور عبدالمنعم أبوالفتوح حين يتجهم الإخوان، ويتماثل مع الناس حين يتمايزون، وينفتح عليهم حين يوصدون أمامهم الأبواب حذرا وتحسبا أو إعراضا، ويمد يده لدعاة الحرية حين يجرى منها أو يقذفها غيره داخل هذه الجماعة العجوز، التى اعتادت على لملمة أشلائها، والعودة إلى قيد الحياة كلما ظن كثيرون أنها تحتضر، أو تستعد لرحيل أبدى
.

أبوالفتوح لم يكن يخدع أحدا، لكنه تصرف طيلة الوقت على سجيته، وبان عليه ما يقتنع به، وعمل دوما وفق ما رأى أنه الصواب، حتى لو اختلف معه آخرون داخل الجماعة، ولم يصدقه البعض خارجها، وبات مع مرور الأيام هو الوجه الأكثر إشراقا فى الإخوان، واللون الرائق لأى عين تبحث عما هو إيجابى وبناء فيها، ومكمن الاطمئنان لكل من يراهن على أن «الإخوان» يمكن أن يتغيروا إلى الأفضل، وينضجوا سياسيا، ويتعمقوا معرفيا.

أبوالفتوح وأمثاله هم الرقم الصعب، والاستثناء الجميل، وبداية خروج الإخوان من كهف التاريخ وتفكير الفصيل، إلى براح العمل العام، ليصبحوا قوة مضافة إلى الحياة السياسية، وليسوا خصما منها، حين ينحازون بكل كيانهم إلى مدنية الدولة، ويؤمنون بتداول السلطة، ويتصالحون مع مبادئ المواطنة، وما لها من حقوق وما عليها من واجبات. على مدار سنوات طويلة رأيت كيف كان الجميع ينظرون إلى هذا الرجل المفعم بالكبرياء والشهامة والوطنية، ويعولون عليه، فحين يقول البعض «الإخوان جماعة فاشية» يرد عليهم آخرون «لكن فيهم عبدالمنعم أبوالفتوح وأمثاله».

ولمّا يقال إن الإخوان يكرهون الثقافة والفنون ويتربصون بحرية الإبداع، يرد منصفون: لكن «أبوالفتوح» ذهب إلى نجيب محفوظ، ولم يرفض الاتجاه إلى إعادة طباعة روايته المثيرة للجدل «أولاد حارتنا» فى مصر. وحين تتحسر النخبة الثقافية والسياسية على افتقار الساحة المصرية لساسة «إسلاميين» مثل أردوجان وجول وأربكان، الذين أنتجوا لتركيا نموذج حكم إسلاميا عصريا وديمقراطيا، تتخفف تلك الحسرة بتذكر «أبوالفتوح» ويتسع الأمل فى إمكانية انتصار التيار الذى يقف خلفه فى الإخوان، فتنجو مصر من السقوط فى فخ «الدولة الدينية».

لكل هذا اعتقد كثيرون أن عبدالمنعم أبوالفتوح بمنأى عن الاعتقال والتعذيب والتنكيل والتشويه، لكن من يعرف «النظام الحاكم» جيداً، يدرك أن تلك الاعتقادات لم تكن سوى أضغاث أحلام. فمثل هذا الرجل هو الأخطر على سلطة شاخت فى مواقعها، لأنه يمد الجسر الذى قطعته السلطة بين الإخوان ومنتجى الثقافة، ويلطف من غلواء الخطاب الدينى المتشدد، الذى يخرج من أفواه المنتمين إلى الكتلة السلفية الغاطسة فى جسم هذه الجماعة، ويضرب مثلا ناصعا لشبابها على أن التجاور والتحاور مع الآخرين والمتنافسين أمر وارد وطبيعى ومحمود، ويمكن له إن تمكن وسادت رؤيته أن ينتشل الإخوان من جماعة شمولية منغلقة إلى حزب سياسى حقيقى، لديه رؤية متماسكة تسهم فى نهضة مصر، ومن فصيل خائف مستسلم إلى «ثقافة المحنة» إلى طرف فاعل جرىء، ومن جزء عصىّ فى مشكلة مصر إلى جزء سخىّ من الحلول المطروحة.

من أجل هذا لا بد لمثل هذا الرجل أن يتوارى من المشهد، لتبقى الصورة الذهنية السلبية عن الإخوان قائمة، تحيط بها قطع الليل المظلم، وتلطخها دماء سالت قبل عشرات السنين بيد «التنظيم الخاص» للجماعة، وتُصب عليها اللعنات من كل المرعوبين من حكم رجال الدين، والخائفين على الإسلام من أن يتحول إلى أيديولوجيا سياسية تجور على دعوته إلى الامتلاء الروحى والسمو الأخلاقى وتنظيم المجتمع على سنن العدل والاستقامة. لا يمثل حبس أبوالفتوح حدثا عارضا، ولا هو مجرد حلقة فى سلسلة التضييق الأمنى الصارم على «الإخوان المسلمين»، إنما يتعدى ذلك إلى إيصال رسالة واضحة للإخوان وغيرهم بأن النظام لن يتسامح مع أى طرف يهدد وجوده، أو يدفع مزيداً من السوس لينهش فى عظامه النخرة. فلا مساس بالقاعدة الراسخة التى تقول «الاستقرار والاستمرار» حتى لو كان الاستقرار ركوداً وجموداً، والاستمرار سيراً بطيئاً على دروب المجهول. فى كل الأحوال فإن وضع كل الإخوان خلف القضبان لن ينهى معضلتهم، بل سيخدمهم على المدى الطويل، ويلقى بتبعات ثقيلة على المستقبل السياسى لمصر برمتها، فالإخوان فى الزنازين وتحت السياط وداخل دائرة الحصار أو خارج الوظائف الحكومية والعامة، هم فى نظر جموع غفيرة موزعون على ثلاث صور إيجابية يظهرون فيها كضحايا أو أبطال أو استشهاديين، فيقتربون من الناس زلفى، فى وقت يبتعد فيه النظام عنهم بفعل سياساته التى تنحاز إلى رجال الأموال والأملاك وأصحاب الاحتكارات وأهل الثقة وحملة المباخر.

إن اختلافنا مع الإخوان فى الكثير من الرؤى والمسالك لا يعنى أبدا الموافقة أو مباركة تعرضهم المستمر للاعتقال، وتحويلهم إلى محاكم عسكرية، وممارسة تمييز ضدهم داخل مؤسسات العمل، وحصارهم وخناقهم الذى ينقص من حقوقهم كمواطنين مصريين، وتقليص الخيارات أمامهم بما قد يدفعهم دفعا للعودة إلى ممارسة العنف بعد أن طلقوه وهجروه. وعندها سنندم كثيرا على إنهاك رجل مثل عبدالمنعم أبوالفتوح، بوسعه أن يلعب دورا مهما فى ترشيد التفكير السياسى للإخوان. كما سنندم على هذا الرجل، ليس لشخصه النبيل فقط، بل للمسلك الذى يمثله داخل الإخوان، حين تبقى هذه الجماعة وغيرها من التنظيمات والجماعات، التى تتخذ من الإسلام أيديولوجية لها، عقبة عصية على التجاوز أمام مدنية الدولة، التى صارت مطلباً عزيزاً، وحلما يراود كل من يروم لمصر خروجا آمنا من بين أنياب الاستبداد والفساد)।

د - عمار على حسن (الباحث فى علم الاجتماع السياسى والخبير فى شئون الاسلام السياسى )