الباب الثالث والأخير : العمل السياسي
لاشك أن العمل السياسي للحركة حق أصيل لها ولغيرها بل يتعطش المجتمع لتطبيق الرؤى الحضارية والأخلاقية للفهم الوسطى للشريعة الإسلامية والتي من مقاصدها المعاصرة ( احترام الحريات الفردية - تطبيق العدالة الاجتماعية والمساواة بين فئات المجتمع - قبول التعايش بين مختلف مكونات المجتمع - الكرامة الانسانية للرعية ) إلا أن السياسة في الرؤية الإسلامية ليست من أمهات العقائد الدينية وإنما هي من الفروع والفقهيات ، لذا فإن الاختلاف فى الاجتهاد السياسي مرده ( النفع - الضرر) ، ( الخطأ - الصواب ) وليس ( الكفر- الإيمان ) أو يدور في فلك ( الراجح - المرجوح ) وليس (الحلال – الحرام ) فالدولة المسلمة الحديثة لابد أن تعتمد التعددية الدينية والسياسة والفكرية فى الأمة ففقه التسامح والتعايش هو روح النظام الإسلامي فى كل مجالات الحياة فما بالنا بنظام الحكم وشئون الرعية .
يقول " ابن عقيل " الحنبلى فيما نقله عن "ابن القيم "رحمهما الله في كتابه ( إعلام الموقعين ) : السياسة ما كان من الأفعال بحيث يكون الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد ، وإن لم يشرّعه الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا نزل به وحى . فالسياسة سياستان : سياسة الدين وسياسة الدنيا ، فسياسة الدين ما أدى إلى قضاء الفرض وسياسة الدنيا ما أدى إلى عمارة الأرض كما أن الأصل فى الحاكم أنه أجير لدى الأمة تختاره وتراقبه وتراجعه ولها أن تعزله إن اقتضت الضرورة .
والأصل الذي نراه فى ضوء تجارب الحركة الإسلامية المعاصرة أن دورها الدعوى مقدم على دورها الحزبي فالداعية ملك لجميع المسلمين يدعوهم بالحسنى وبالمعروف بينما الحزبي يدور فى فلك دائرته السياسية الضيقة يدعو لرؤيته وينافس غيره وتحزُب الداعية يفقده مصداقيته وتأثيره المجرد على الناس
*********************************
بديهياً الإسلام دين شامل ونظام حياة متكامل فالسياسة باعتبارها إصلاح الحكم فى الداخل وضبط العلاقة مع العالم الخارجي وفق المصالح والمبادئ العامة للأمة هى جزء من الإسلام الشامل المحقق للحياة الصحيحة، كما أراد لها الحق تبارك وتعالى أن تكون. والدين مهم جدا للسياسة إذ يمنحها بعدا أخلاقيا ينظفها من الدسائس والمؤامرات.. لكن لا ينبغي اعتبار السياسة شأنا دينيا بحتا يسرى عليها منطق الأحكام الفقهية سواء فى اللغة المستخدمة أو طريقة المعالجة نفسها، وزج الفقه بأحكامه فى دائرة السياسة المرنة المتغيرة يثير مشكلات (مثل ما حكم مقاطعة الانتخابات أو الاستفتاء أو ما شابه ذلك من اختيارات متغيرة..) ولذلك ينبغي التمييز الواضح بين الدعوي والحزبى: فهو التمييز العملي التنظيمي التخصصي وليس على أساس علمي أو عقائدي أو فكري، فليس لمؤمن أن يعتقد أن السياسة ليس لها علاقة بالدين لكن الذي نقوله: إن السياسي مهما ابتعد عن المجال الدعوي يجب أن يعتقد أن السياسة من الدين ويجب على الدعاية أيضًا أن يوجه الناس في الأمور ذات الشأن العام، والذي نعنيه بالتخصص أن يكون هناك مَن تفرغ لآليات السياسة: الانتخابات، وقيادة الحزب، والدخول في الصراع السياسي. فالذي نقصده هو الفصل الوظيفي.فالعمل السياسي يتجه بالأساس إلى فروض الكفاية والعمل الدعوي يركز على فرض العين وفرض العين يلزم الجميع، لكن الدعوي يشرحها ويركز عليها ويربي الناس عليها، والسياسي يضع الحلول لإقامة فروض الكفايات لكن في النهاية لابد للجميع من مرجعية واحدة هي مرجعية الإسلام
فالدعوة دين والسياسة دين، لكن الداعية لا يعرف إشكاليات السياسة، ولا السياسي يعرف إشكاليات الدعوة وكل له عالمه الذي يعيش فيه لذلك رأينا اجتهادات أغلب الدعاة السياسية - خصوصاً بعيد ثورة 25 يناير - باهتة بلا روح أو مضمون تثير الشفقة والألم
والنتيجة التي نرنو الوصول إليها هي كما يقول الدكتور "عبد الكريم بكار": (ليس للتمييز بين الدعوي والسياسي) أي توجه إلى فصل الدين عن الدولة، أو تجريد العمل السياسي من الضوابط الشرعية والأخلاقية؛ إذ على من يمارس السياسة أن يمارسها بغية تحقيق مصالح العباد والبلاد، وفي إطار الأحكام والآداب الإسلامية، كما أن على الدعاة والمثقفين أن يمتلكوا من الوعي السياسي، ما يجعلهم يساعدون في ترشيد الممارسة السياسية وتجويدها..
فالحديث ليس عن العقائد والمبادئ؛ إذ إن على المسلم أن يعتقد بصلاحية الإسلام عقيدة وشريعة لكل زمان ومكان، لكننا نتحدث عن ممارسة العمل السياسي؛ فالتمايز الذي ينبغي أن يكون ليس بين المبادئ السياسية والمبادئ الإسلامية ـ فهذا لا يقول به أصغر طالب علم ـ وإنما بين ممارسة الدعوة وممارسة السياسة الحزبية، حيث إنه من الأنجع والأنجح للأفراد والجماعات أن يعملوا، وينشطوا في مجالات محددة يملكون فيها ما يكفي من المعرفة والخبرة، وإذا رغبت جماعة إسلامية ما في الانخراط في العمل السياسي، فإن المصلحة تقتضي ـ فيما أظن ـ أن تحفز بعض أبنائها على دراسة العلوم السياسية، وإذا كانت الظروف مواتية لتشكيل حزب سياسي فليكن دون ارتباط بالحركة ، لكن لا أرى للسياسي الانغماس في النشاط الدعوي، كما أنني لا أرى للداعية الانغماس في النشاط السياسي).ولا يتصور أن يكون للحركة أذرع سياسية أو حزبية أو اقتصادية أو غيرها بل يجب الفصل التام بين العمل الدعوى والتربوي كدور مجتمعي لا يهدف لتولى الحكم وبين العمل الحزبى كدور تنافسي أساسه الوصول للسلطة لتطبيق البرامج والرؤى القابلة لتغيير الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الصعبة للشعب .
قضية أخرى ينبغي التأكيد عليها هي أن التمييز ينصب على ما هو دعوي بالأساس وبين ما هو حزبي تنافسي. بمعنى أن الداعية والعالم الشرعي لا يحجر عليهما الخوض في الشأن السياسي أو إبداء رأيهما، لأن هذا هو حق لكل أحد، لكن العمل الحزبي هو شأن تدبيري يدخل في التفاصيل والآليات بشكل مباشر، كما هو أيضًا عمل تنافسي. لكن قبل ذلك ينبغي العمل على ترسيخ الفصل بين الرموز الدعوية والرموز الحزبية فيقع موقع الداعية موقع الدعوة والرأي بعيدًا عن الشأن الحزبي أو التبني السياسي لأطروحات حزبية ما
.****************************
نقطة أخيرة في نهاية هذه السلسلة : لتحذر الحركة الإسلامية أن تدعو الناس إلى ما ليس فيها؛ كأن تدعوهم إلى التحابّ والتراحم وأدب المعاملة، وأن يتسلل إلى داخلها خلاف ذلك! ولتحذر كذلك أن تنهى الناس عن عيوب، وأن تبرز هذه العيوب في أجواء التعامل بين أبنائها؛ كأن تدعو الناس إلى نبذ التكالب على زينة الدنيا والحرص على جمع المال وحب المنصب واتباع الهوى، وأن يدب دبيب هذه الأمراض في داخل صفها ، فالنقد الذاتي منهج بناء وتحصين للنفس، يسعى إلى استجلاء معالم التقصير وأسباب القصور ، ومحاصرة الانحراف بشتى أنواعه حتى لا ينتقل من استثناء يقع فلتة إلى قاعدة تستمد شرعيتها من الدين ذاته، وحرمان الأشخاص - غير الأنبياء مهما بلغت منزلتهم – من ادعاء العصمة لآرائهم، وإضفاء القداسة على أعمالهم حتى يبعدوا عن أنفسهم احتمال الخطأ، أو التعرض للنقد والمساءلة من الصف .
المصدر / http://justpaste.it/politicalwork
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق